الرئيسيةالادب الشعبيالتأثر والتفرد

التأثر والتفرد

ليس لأحد أن يتفرد في عالم الشعر إلا وتجربته الحياتية ثرية وعطاؤه الإبداعي نوعي، فيكون طبيعيا وقوعه على اتجاه أو مذهب خاص به وحده. والتفرد غير الريادة، لأن التفرد يمكن أن تتكرر صوره، أما الريادة فلا تتكرر، وإنما تتغير بريادة أخرى جديدة تشمخ بابتكار أو تحديث جوهري على مستوى هيكل الشعر ومبانيه وموضوعاته.
وللتفرد مؤهلات ومقومات تسمح للشاعر أن يقع على نهج شعري يضع قدمه عليه فيكون مخصوصا بقصيدته. وقد استند أحمد مطر إلى ما لديه من طاقة شعرية فتفرد بنهج، نمذج وفقه قصائده من الناحيتين: المضمونية، حيث اختص بثيمات جعلت شعره يوصف بأنه سياسي، والفنية حيث داوم على أسلوب شعري محدد، ما أن يطرق المسامع حتى تستدل الأفئدة على خصوصيته.
ولا ريب في أن صوت أحمد مطر الشعري لاذع وناقم على الوضع السياسي العربي، وهو في هذا متأثر بشاعرين معاصرين، استلهم منهما المقاومة والسخط والغضب على كل ما هو فاسد ومتخاذل، فأما الأول فمظفر النواب في قصائده (تل الزعتر/ تكاثرت القمم/ دوامة النورس الحزين/ قراءة في دفتر المطر) ومما قاله فيها: (كذبت كنشرة أخبار/ فكأنك غربة/ وكأنك كنت رصيفاً في الغربة/ وكأنك مألوف في الغربة/ وكأنك لا أدري)
وأما الشاعر الثاني فنزار قباني في ديوانه (هوامش على دفتر النكسة) وقصائده الأخر – ومنها قصيدة بلقيس- المتسمة بتقريع الأنظمة الضالعة في العسف والاضطهاد والديكتاتورية، وتعرية أساليبها وفضح ألاعيبها. يضاف إلى هذين الشاعرين شاعر آخر تأثر به أحمد مطر تأثرا لا يقل عنهما قوة، هو الشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس
(1909-1990) الذي آمن بقدرة الشعر السياسي على تغيير العالم، وداوم منذ عام 1956 على استعمال أساليب محددة في شعره، عرفها شعر أحمد مطر أيضا مثل التهكم والمفارقة والاختزال والسردية الدرامية، والحوارية المونولوجية وغيرها. يقول ريتسوس في إحدى حوارياته: (بلا مهارة يخيط أزرار سترته/ بإبرة كبيرة وخيط ضخم/ هل أكلت خبزك؟ هل نمت بهدوء؟ / أقدرت أن تتكلم؟ / هل تذكرت أن تنظر من النافذة؟/ إن كان الموت هنا فهو دائما يجيء ثانيا/ الحرية هي الأولى دائما).

وعلى الرغم من هذا التأثر بالنواب وقباني وريتسوس، فإن أحمد مطر لم يقلدهم، وإنما أفاد منهم في تعزيز فرادة قصيدته، يضاف إلى ذلك ما منحته تجربته الصحافية مع رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي من خبرة ودربة، فتوسّعت في شعر مطر آفاق السخرية اللاذعة، بل الحارقة، فتأكد أكثر نهجه الشعري الذي ظل حاكما تجربته.

فرادة القصيدة

وعلى الرغم من هذا التأثر بالنواب وقباني وريتسوس، فإن أحمد مطر لم يقلدهم، وإنما أفاد منهم في تعزيز فرادة قصيدته، يضاف إلى ذلك ما منحته تجربته الصحافية مع رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي من خبرة ودربة، فتوسّعت في شعر مطر آفاق السخرية اللاذعة، بل الحارقة، فتأكد أكثر نهجه الشعري الذي ظل حاكما تجربته. وبهذه الحاكمية تفردت قصيدته، سواء أكان ذلك في هيكيلية بنائها وانسيابية انتقالاتها أم كان في رشاقة صورها وبرقيتها الخاطفة. وهذا هو ما حجز لاسم أحمد مطر مكانا أثيرا في أذهان جمهور شعري واسع. وقد اعتمد أحمد مطر على قوة شاعريته حتى وصفت أشعاره بأنها لافتات محرِّضة، لكن بفنية عالية، فالشعر بالنسبة إليه وسيلة كفاحية توجهها طاقة ثائرة، والقصيدة وعاء فيه تتحول تلك الطاقة إلى ثورة تكتنز حماسة، وكأنها مظاهرة جماهيرية ساخطة، فيها كل ما هو احتجاجي عارم. وكما أن المظاهرة لا تكون من دون لافتات توجز وتلخص مطالب وأهداف رافعيها، فكذلك شعر أحمد مطر لا يكون إلا والقصيدة لافتة توجز ما تريد توصيله من معان سياسية بأقصر الجمل وأكثرها تكثيفا.
ولتفرد شعر أحمد مطر سمات خمس، غايتها النقد الاجتماعي والسياسي؛ اثنتان من هذه السمات رئيستان تطغيان على إبداعه الشعري والنثري بشكل عام، أولاهما الإيجاز في المفردات وتكثيف الصور فتغدو القصيدة برقا راعدا، تلقي حمولتها الدلالية غاضبة منتقمة متحركة، لا تستقر على حال. وثانيتهما هي السخرية اللاذعة، وبها ينفّس الشاعر عن آلامه ويعبر عن اختلاجات مشاعره النفسية المشحونة بالقهر والانتقام والازدراء من كل ما هو فاسد ومشين. يقول مطر في قصيدة (الغريب): (قال الشعر/ ومد الصوت والصوت نفد/ وأتى من بعد بُعد/ واهن الروح محاطا بالرصد/ فوق أشداق دراويش/ يمدون صدى صوتي على نحري/ حبلا من مسد/ ويصيحون مدد).
وليست الغاية من السخرية اللاذعة التندر والفكاهة، بل النقد اللاذع بقصد إيقاظ الوعي وتنبيه الأذهان إلى نقائص المجتمع وسلبياته بغية إصلاحها أو تثويرها. وكثيرا ما يكون في الهزل وجع وفي الضحك بكاء وفي السخرية تراجيديا، كما في قصيدة (عائدون):
(واليتامى من يتامى يولدون/ يا فلسطين وأرباب النضال المدمنون/ ولقد عاد الأسى للمرة الألف/ فلا عدنا/ ولا هم يحزنون). وقصيدة (بين يدي القدس): (يا قدس يا سيدتي معذرة/ فليس لي يدان/ وليس لي أسلحة/ وليس لي ميدان/ كل الذي أملكه لسان/ والنطق يا سيدتي أشعاره باهظة/ والموت بالمجان).
ومنذ القدم والسخرية اللاذعة سلاح فعّال عرفته الملاحم والتراجيديات، واستعمله الشعراء العرب وبرع الجاحظ في توظيفه. ويبدو أن السبب الذي جعل أحمد مطر مولعا بالسخرية اللاذعة ما تركته في نفسه ذكرى قديمة سردها في إحدى مقالاته الأدبية قائلا: (ما أن تحل العطلة الصيفية حتى يبدأ دوامنا أنا وصديقي ناصر في المكتبة العامة في محلة الجمهورية، كان ولعنا هذا بزيارة المكتبة مثار غيظ وسخرية أقراننا، لكننا ألفنا سخريتهم باعتبارها ثمنا معقولا لما نستثيره فيهم من غيظ). وبالسخرية اللاذعة تمكّن أحمد مطر من جعل الضحك كالبكاء، واللامبالاة كالمبالاة، وإراحة النفس كاغاظتها. يقول في قصيدة (إصلاح زراعي): (قرر الحاكم إصلاح الزراعة/ عين الفلاح شرطي مرور/ وابنة الفلاح بياعة فول/ وابنه نادل مقهى/ في نقابات الصناعة/ وأخيرا/ عين المحراث في القسم الفولوكلوري/ والثور مديرا للإذاعة/ قفزة نوعية في الاقتصاد/ أصبحت بلدتنا الأولى/ بتصدير الجراد/ وبإنتاج المجاعة). وهذه القصيدة وأمثالها تحيلنا إلى أرث الشاعر العربي بيرم التونسي، لاسيما قصيدته الشهيرة (المجلس البلدي) ومما قاله فيها: (ما شَرَّدَ النومَ عن جفني القريحِ سوى/ طيف الخيالِ خيال المجلسِ البلدي/ إذا الرغيفُ أتى فالنصف ُآكُلُهُ/ والنصفُ أتركُه للمجلس البلدي/ وإنْ جلستُ فجَيْبِـي لستُ أتركُهُ/ خوفَ اللصوصِ وخوفَ المجلسِ البلدي/ وما كسوتُ عيالي في الشتاءِ ولا/ في الصيفِ إلاَّ كسوتُ المجلسَ البلدي).
وفي ديوان (لافتات) يستعمل أحمد مطر السخرية اللاذعة بقصد هجاء الخصم وتعريته والتنكيل به، كي يبدو ضئيلا مضحكا كما في قصيدة (نبوءة): (لست كذابا/ فما كان أبي حزبا/ ولا أمي إذاعة/ كل ما في الأمر/ أن العبد صلى مفردا بالأمس/ في القدس/ لكن الجماعة/ سيصلون جماعة). وهذا ما يذكرنا بقصائد الشاعر موفق محمد التي هي على هذا المنوال كقوله: (يا أيها المتقرفصُ في المرآة/ أنفضْ عن كتفيكَ غبار الخوف/ قلْ لي ما اسمك؟ واستدرْ لي/ فأنا مثلك أتشظّى رعباً).

وفي مقالات أحمد مطر الأدبية ـ ويغلب عليها النهج القصصي- سخرية لاذعة محمَّلة بالنقد الاجتماعي والسياسي كما في مقالة (الدودة والعلف): (أول طبق مقبلات قدمته الجماهير العظيمة كان عبارة عن أهزوجة تقول: ثلث لله وثلثين لطالب.

السخرية اللاذعة

وقد تكون الغاية من السخرية اللاذعة مجابهة الخصم بعكس ما يتوقعه من خلال إكساب الألفاظ دلالات غير مباشرة باستعمال أسلوب التعريض والتورية كقصيدة (ختان) من ديوان (إني المشنوق أعلاه) 1989 وفيها يقول أحمد مطر: (بدء تاريخ الهوان: ذبحوا سري/ وسال الدم في حجري/ فقام الصوت من كل مكان/ ألف مبروك/ وعقبى اللسان). ومن أسلوب المشاكلة والمواربة ما نجده في عناوين القصائد مثل (الرحمن فوق القانون/ ورثة إبليس/ السلطان الرجيم/ عبد الذات/ أقزام طوال).
ويستفيض الشاعر أحمد مطر في توظيف أسلوب الاقتباس داخل قصائده، كقوله في قصيدة (قلة أدب): (قرأت في القرآن: تبت يدا أبي لهب/ فأعلنت وسائل الإذعان: إن السكوت من ذهب/ أحببت فقري فلم أزل أتلو: وتب/ ما أغنى عنه ماله وما كسب/ فصودرت حنجرتي/ بجرم قلة الأدب/ وصودر القرآن/ لأنه حرضني على الشغب). وكذلك أسلوب التصحيف كما في قصيدة (صاحب الجهالة) (عن الطفل الذي يُحرق في الثورة كي يغرق في الثروة أشباه الرجال/ قلب المسؤول أوراقي وقال: اجتنب أي عبارات تثير الانفعال) والمدح الذي يحقق المفارقة الساخرة (كلهم يشتم أمريكا/ وأمريكا/ إذا ما نهضوا للشتم/ تبقى قاعدة/ فإذا ما قعدوا/ تنهض أمريكا لتبني/ قاعدة).
وفي مقالات أحمد مطر الأدبية ـ ويغلب عليها النهج القصصي- سخرية لاذعة محمَّلة بالنقد الاجتماعي والسياسي كما في مقالة (الدودة والعلف): (أول طبق مقبلات قدمته الجماهير العظيمة كان عبارة عن أهزوجة تقول: ثلث لله وثلثين لطالب. وثلث الله يطالب بيه طالب. والسؤال الذي يجمع نفسه: ماذا لو أن طالب نال المنصب فاستولى على الثلث الباقي..) أو قوله: (هذه الأنظمة المنبطحة حتى الأرض السابعة ملكت الجرأة أخيرا لتصرح بأنها ترفض أي إصلاح يفرض عليها من الخارج. إذن أجزم بأنها لم تنطق بذلك إلا بعد أن استأذنت الخارج وهو أمريكا بالتحديد) وانتقد الصين الشيوعية بمقالته (الازاليا الحمراء) عن سيرة الكاتبة الصينية انتشي مين، وقال: (لم تكن هناك طفولة في صين (ماو) لأن الطفولة كانت تعد ترفا ولم يكن للأبوة والأمومة معنى حقيقي.. لأنهما تعدان من الكماليات كان الصغار والكبار جميعا أبناء للحزب.. وارتفاع ضغط الدم مرض بورجوازي والاختصاص العلمي غير الاختصاص الحزبي).
أما السمات الثلاث الأخر التي بها امتلك أحمد مطر التفرد في عالم الشعر فهي: أولا/ السردية، وبها يصور الشاعر الخصم تصويرا كاريكاتيريا فتنقلب صورته إلى الضد أو يتلاعب بالألفاظ فيتغير مضمون الحدث السردي إلى معنى آخر غير مباشر، وهذا ما يذكرنا مباشرة بشعر موفق محمد، الذي هو آخر تجربة فريدة في الشعرية العراقية الساخرة العاصفة في إثارتها وتحريضيتها الجماهيرية، يقول موفق محمد: (ما زلنا في المربع الأول/ واضعين الحصان خلف العربة/ وعندما نتفق أو نختلف/ لا فرق/ نقتل الحصان والسائق/ ونحرق العربة/ ويقتل بعضنا بعضاً في الفيلم العراقي الرهيب «جئنا لننتقم»). أما احمد مطر فيقول: (ذات يوم/ رقص الشعب وغنى/ وأحنى بهجته حتى الثمالة/ إذ رأى أول حالة/ تنعم البلدة فيها بالعدالة/ زعموا ان فتى سب نعله/ فأحالوه إلى القاضي/ ولم يعدم بدعوى شتم أصحاب الجلالة).
ثانيا/ اللاواقعية وبها يصور الشاعر ما هو واقعي، لأن الواقع نفسه غير واقعي، فلا تنفع معه الفنتازيا والتغريب ولا التعجيب والسحرية ولا السريالية والتجريدية ولا الرسوم المتحركة. ولهذا تأسف أحمد مطر على ماركيز لأن (واقعيته السحرية لم تعد تثير الاستغراب، إلا لكونها أقل غرابة من غرائبية هذا العالم السعيد). وقد قال أحد كتّاب أمريكا اللاتينية: (إن ما يراه الغرب غرائبيا في كتاباتنا، إنما هو واقع نعيشه كل يوم). وتتضح لا واقعية أحمد مطر في قصيدة (ما قبل البداية) وفيها يصور نفسه جنينا لأم وأب عربيين ويتمنى أن يقطع الحبل السري بنفسه كي لا تحبل أمه بعده بغيره. أما في قصيدة (ما بعد النهاية) ففيها هو مشنوق ويعترف من مكانه في العالم الآخر قائلا: إنني المشنوق أعلاه/ على حبل القوافي/ ارتكبت الصدق كي أكتب شعرا/ واقترفت الشعر كي أكتب فجرا/ …/ وعلى ذلك وقعت اعترافي).
ثالثا/ المفارقة الفنية فتبدأ القصيدة بفكرة وتنتهي بما يناقضها، ولاسيما إذا كانت القصيدة قصيرة، وجميع قصائد أحمد مطر قصيرة؛ يقول في (علامة الموت): ( يوم ميلاده/ تداعى الأصدقاء لما عرفوا أنه ذكر/ ضحكوا/ وقالوا للأب عظم الله لك الأجر). وقد يجابه الشاعر بالمفارقة خصمه فيظهره على عكس ما يتوقعه كما في قصيدة (ملحوظة): (ترك اللص ملحوظة/ فوق الحصير/ جاء فيها: لعن الله الأمير/ لم يدع شيئا لنا نسرقه/ إلا الشخير). ولا شك في أن جذور الشعر السياسي الساخر اللاذع كامنة في الشعر العربي بفصيحه وعاميه، ولعل أجلى صورها تمثلت في قصائد بيرم التونسي وملا عبود الكرخي وصولا إلى أحمد فؤاد نجم.

المادة السابقة
المقالة القادمة
مقالات ذات صلة
- Advertisment -spot_img
- Advertisment -spot_img

الأكثر شهرة

احدث التعليقات

جليل الغريب على ليلة ضلمة
شذى عبد على شخصية من بلادي
الفنان الصغير على غداً هو يوم جديد
الفنان الصغير على إذا استعت أن تحسن حياة انسان